ذات ظهیرة فی بیت یانیس ریتسوس
بقلم: خالد النجار
ما أزال أرى یانیس ریتسوس فی صالون شقته بشارع کوراکا جالسا فوق أریکته المنجدة بالرسوم الحمراء... تزدحم الکتب حوله من کل جانب : کتب حذوه على الأرض و کتب فوق الطاولة الصغیرة التی أمامه و من خلف ظهره کوم أخرى من الکتب و قد وضع فوقها دمى وتماثیل صغیرة لجنود اسبرطیین و خیول اغریقیة مندفعة و أبطال من المیثولوجیا الیونانیة القدیمة... لوحات وأیقونات شعبیة تغطی جدران الشقة و أعمال زیتیة صغیرة و متوسطة ذات أطر ذهبیة و أخرى خشبیة بنیة... وفی رکن قریب تتکدس قطع من الحجارة الصغیرة صفائح حجریة رقیقة کان یرسم فوقها وجوه المساجین أیام المنفى فی جزیرة ماکرونیسوس عندما لم یکن لدیه ورق للرسم...
أتذکر تلک الابتسامة السعیدة المترعة التی تملأ وجهة... وتلک النعومة فی نظرته ورأسه المائلة ولحیته الضاربة إلى شقرة لحیة القدیسین وتلک السیجارة التی لا تنطفئ بین أصابعه الدقیقة المصفرة الأنامل و فرنسیته التی استقبلنی بها ذات اللکنة الاغریقیة حیث یدور الراء و یمیل بحرف السین نحو مخرج الزای فیانیس ریتسوس ینتمی لذاک الجیل الذی تعلم الفرنسیة فی المدارس قبل أن تتحول الیونان إلى الإنجلیزیة.
بدا ریتسوس سعیدا بزیارتی له وکیف لا وهو یحس باعتراف العالم به وأن والناس تأتی لزیارته من بلاد بعیدة... حملت له ورودا بیضاء أخذها بتلطف ووضعها فوق المنضدة...
أتذکر سؤاله عن صدیقه الشاعر لوران غسبار الذی کان یلجأ من حین لآخر إلى الیونان حیث کون صداقات مع کتابها وشعرائها وأخص بالذکر منهم جرج سیفیریس الذی نقل یومیاته إلى الفرنسیة کما ترجم أشعار قسطنطین کفافیس ومختارات لسیفیریس. کان لوران ینعزل من حین لآخر فی جزیرة باثموس حیث اتخذ له بیت بحار قرب المیناء القدیم وهناک کتب یومیات باثموس و أنهى قصیدته أجسام أکالة تکلم أول الأمر عن کفافیس الذی یعده صانع اللغة الشعریة الیونانیة الحدیثة وعن ثراء الیونانیة الشعبیة قال:
أفدنا أیضا من اللغة الدیموستینیة الشعبیة التی هیأها لنا شعر الأعراس وشعر النائحات على الموتى وغناء العمل وترنیمات الأمهات. کل ذاک الشعر مشحون بتجارب وحیاة الشعب. کل تلک الأشعار تلف فی شرایینی مع الدورة الدمویة...
وعن علاقته بناظم حکمت الذی جمعه به برنامج حواری فی رادیو براغ یقول:
قبل بدایة الحوار أصر ناظم حکمت على معد البرنامج أن أتکلم أنا الأول قال بالحرف الواحد أرید أن یکون الشاعر الیونانی یانیس ریتسوس هو أول من یتحدث واستمر ریتسوس :
براغ من أجمل مدن العالم مدینة مهیبة ذات عمارة جمیلة جدّا... مع هبوط المساء وإذ تدق مجتمعة کل نواقیس کنائسها وکاتدرائیاتها القدیمة تحس بجلال کبیر... یذکرنی ترددها فی أرجاء السماء الزرقاء الداکنة بجلال موسیقى باخ... باخ الذی أعتبره أکبر موسیقی على مر العصور... وعن أراغون قال:
دعانی أراغون إلى فرنسا ولکن لم أذهب إلى أن جاءنی هنا وقد کتب مقارنا بین شعری ورسوم ماتیس عندما التقیته فی أول زیارة کان ریتسوس فی الواحدة والسبعین من عمره شابا نشطا ذهبت أول الأمر إلى مکتبة دار کیذروس للنشر قریبا من ساحة البرلمان لأسال عنه واترک له الرسالة التی حملتها من تونس وهی توصیة من صدیقه لوران غسبار. دخلت المکتبة وما أن تلفظت باسم ریتسوس حتى تغیرت ملامح وجه موظف المکتبة من البشاشة التی استقبلنی بها إلى الجمود عاد وجهه إلى ذاک التعبیر الجاد الذی یخفی تعالیا ونرجسیة کثیرا ما تجدها لدى أنصاف المثقفین وقال بهدوء واقتضاب لا نعرفه وصمت کما لو أنه یأمرنی بالمغادرة... وغادرت على عجل.
وعندما عدت إلى صدیقی نوبیل فی مقهى ایفری دای وأعلمته بالأمر صرخ لقد ارتکبت خطأ فادحا دار کیذروس تطبع أعمال سیفریس وهی معادیة للشیوعیین کما أنها منافسة للدار التی تنشر أعمال ریتسوس وبینهما تنافر کبیر.
أتذکر طقمه الخبازی وهو یقف أمامی فی سطیحة شقته لآخذ له صورا کانت هناک فی الخلفیة قمم جبال البارناسوس الزرقاء تخفیها فی البعید بعض السحب المتقطعة الرمادیة والبیضاء...
قال لی هنا فی هذه الشقة أکتب أمام جبال البرناسوس. إشارة إلى الأساطیر الیونانیة القدیمة التی تمثل جذوره الشعریة القصیة. هناک تقیم عرائس الشعر.
وعندما سألته عن علاقته بالماضی الاغریقی البطولی لم أجده شبیها بنا نحن العرب فی تغنینا بماضینا البطولی وبأمجاده؛ بل الماضی لدیه طاقة لاستئناف مسیرة الیونان التاریخیة. الماضی قوة دینامیة لتشیید المستقبل ولیس بکاء على الأطلال وتغنّ مرضی بالأمجاد تغنّ تعویضی على مهانة الحاضر... عوض العمل على البعث کما فعل الیونانیون بتاریخهم...
کان ریتسوس قد أصدر أیامها دیوانه الایماء بالمرافق أو التنبیه بالمرافق... أخذه بین یدیه وبدأ بتوریق الکتاب قال ها أنا فی السبعین وأنشر دیوانا عن الحب : الایروتیکا... لأن الانسان عندما یحب تراه یرید بشکل غریزی أن یشارکه الآخرون احساسه بالجمال... بعدها أخذ دفترا أسود کبیرا من رزمة من الدفاتر قریبا منه. فتح الدفتر وهو یقول کل دواوینی أکتبها بیدی.
أرانی مخطوطات هذه الدواوین کانت کلها مکتوبة بخط متقن بالحبر الأسود کما لو أنها مخطوطات من القرون الوسطى بتموجات وحیویة الحروف التی ترسمها الید البشریة وما تترکه فیها من سحر بعدها ناولنی مجموعة ایروتیکا وهو یقول :
نفذت الطبعة الأولى من إیروتیکا قبل مرور شهر من تاریخ صدورها وهناک دار نشر من ألمانیا الشرقیة راسلتنی قبل أسبوعین تطلب حقوق الترجمة... واستطرد علینا أن نکتب ألف کتاب...
وتذکرت أحد النقاد الذی شبه یانیس ریتسوس فی غزارة أعماله بفیکتور هیغو اذ صدر لریتسوس حوالی مائة کتاب بین مجموعات شعریة وترجمات وأعمال روائیة ومسرحیة إضافة إلى رسومه ومنحوتاته الصغیرة التی غطى علیها صیته کشاعر... کل هذا الانتاج الغزیر رغم السنوات الطوال التی قضاها فی سجون البربریة سجون الیمین الفاش کما یسمی سجون العقداء بعد انقلاب 1967... بید أنه استمر یکتب ویکتب ویکتب... تحدث أیضا عن الشعب الفلسطینی بکثیر من الحب والتعاطف کان ریتسوس الشیوعی الحقیقی مناصرا فی مواقفه لقضایا العرب ونضالات الشعوب المستضعفة بوجه عام قال :
... فی تلک اللحظة دق جرس مدرسی وسمعنا ضجیج الأطفال وهم یخرجون للاستراحة بین الدروس فالمدرسة تقع خلف بیته فی شارع کوراکا... وعدت إلى تونس إلى المدرسة الصادقیة وإلى ساحة القصبة وهناک کانت الشمس تشتعل فوق قبة الساعة التی أمر بإنشائها خیر الدین باشا أواخر القرن التاسع عشر أو هکذا أظن وساعة جداریة أخرى بمینائها الفیروزی وبعقرب واحدة تعلن أیام الشهر القمری وفی الأسفل وفی رکن الساحة ساعة شمسیة حائطیة لتحدید مواقیت إقامة الصلاة وهناک جامع الحفصی الذی یعلن عن الآذان لکل مساجد مدینة تونس لدى اخراج البیرق الأبیض من أعلى الصومعة... وحدیقة الدیر المحاذی للمدرسة الصادقیة والنجوم التی کنت أراها تسقط بین أغصان أشجارها مثل الطیور الذهبیة وتماثیل القدیسین التی تتحرک فی المنافذ فی ظلمة المساء ونحن نغادر المدرسة تحت المطر والریح والراهبة الفارعةالطول فی ردائها الأسود التی تراقب الأطفال سرا بعیون مخیفة من وراء زجاج تلک النوافذ العالیة التی تغطیها الأشجار العملاقة والحصان الأبیض الذی ظل أسبوعا لا یتحرک تحت المطر والذی کان یبدو أکبر من حدیقة البیت والحوذی الذی اسمه حوتة الذی کان یعتنی بالحصان وعود الثقاب والدمیة والبحر وإذاعة الجزائر ورسام ریتسوس الذی اختفى فی الورقة البیضاء والفراشة المیتة على الرف ومصباح النفط بهالته البرتقالیة فوق جدار الغرفة الأصفر والشراشف البیضاء المطرزة بالورود وبتلک العصافیر الصغیرة الحمراء والزرقاء والصفراء التی تعدها العذارى لجهاز العروس والجرار القدیمة والمفتاح الذی ترکه المیت تحت أصیص الزهر لیعود ویأخذه... و... وکلها أشیاء یا نیس ریتسوس الیومیة والمیتافیزیقیة وهی فی الآن أشیاء کل الناس الذین حافظوا على صوت الطفولة فی أعماقهم الصوت الصادر عن الانبهار الأولی بالعالم وبأشیاء العالم وهی أشیاء الشعر التی کثیرا ما یرکنها الکبار فی زاویة مظلمة من ذواتهم وینسونها هناک فینسوا بالتالی أنفسهم وکینونتهم ویعیشون نسیان الوجود الذی تحدث عنه هایدغر وتجدهم وقد انخرطوا فی الآن فی وجود زائف وعالم داخلی آسن...
وعن هذه الکینونة المتجلیة فی الفعل الشعری کفعل وجود کتب یانیس ریتسوس
أومن بالشعر وبالحب وبالموت
وهذا بالضبط السبب الذی یجعلنی أعتقد فی الخلود.
أکتب بیتا شعریا. أکتب العالم یعنی أنا موجود والعالم موجود
ومن طرف إصبعی یسیل نهر
والسماء زرقاء سبعا. وهذا الصفاء
هو أیضا الحقیقة الأولى وإرادتی القصوى
کان الوقت قد عبر سریعا وکان ضوء النهار الذی یغمر الصالون ذاک الضوء الاغریقی القدیم قد بدأ یخبو عندما دلفت ابنته إلى الشقة تذکرت صورتها بالأسود والأبیض طفلة ذات سنتین تقریبا جالسة قبالته فوق مکتبه بقمیصها الأبیض رافعة یدها فی الفضاء کما لو کانت ترید مداعبة وجه أبیها...